ولى زمن المسلسلات المكسيكية المدبلجة إلى اللغة العربية، وأكل عليها الدهر وشرب، لتحل محلها المسلسلات التركية والهندية "المُدَرَّجَة" أو "المُدَرْجَجَة"، أو إن شئت اختر أي نعت ينتمي إلى نفس "الطاسيلة" التي ينتمي إليها لفظ "الدارجة". ولا يتعلق الأمر هنا بشتم ضد هذه الأخيرة؛ بل كل ما في الأمر هو أن هذه محاولة متواضعة لإيجاد ما يشبه "أسرة الكلمات" في نحو وقواعد اللغة العربية.
على أي، تفاءلنا خيرا بهذه الخطوة الجريئة وبهذا الإنجاز التاريخي الكبير، بعد أن أصبحنا نرى العجائز المغربيات يفهمن الدراما التركية والهندية، بحيث لم يبق لهن إلا ارتداء قبعة والبدء في الاشتغال كمخرجات واعدات. فلم لا نثمن ،إذاً، مثل هذه الخطوة؟ فمن يدري فقد تصقل، أيضا، هذه المسلسلات ما يتمتعن به من نْـﮓير ليتحول إلى نقد بناء: نقد سينيمائي وتلفزيوني مثلا.
لكن أغرب شيء من كل ما سبق، هو أن الأمر لم يقف عند رؤية أحفاد عثمان بن أرطغرل يتحدثون بالدارجة، أو عند رؤية بعض العجائز المغاربة، رجالا ونساء، يُكونون بالدارجة بعض الجمل المفيدة مع تحسينها بلاغيا بإدخال بعض المصطلحات الجديدة عليها، والتي سمعوها على امتداد الحلقات التي قد تصل أحيانا إلى بضع وتسعين (أي 90 والصرف بلغة دعاة التدريج). بل الغريب حقا هو أننا بتنا نرى المناظرات تلو المناظرات بين دعاة وأنصار التدريس باللغة العربية وبين دعاة التدريس بالدارجة في التعليم الأولي. وقد خلصت هذه "التبحصيصات" (نستعمل هذه المرة أيضا لغة القوم نزولا عند رغبتهم) إلى ضرورة رد الاعتبار للغة الدارجة إنصافا لها وللأطفال الصغار الذين نقذف بهم ليتعلموا لغة جديدة عليهم، مخالفة للغة الأم السهلة على من هم في مثل سنهم. وعلى هذا الأساس يبدو أننا لو اعتمدنا التدريس بالدارجة من قبل، لكنا الآن قد تجاوزنا الغرب بأشواط كثيرة.. أي منذ "قرن وزمارة" بالنسبة لقرائنا الأعزاء من بلاد دارجستان.
وهنا بالطبع استوقفتني شخصية ابن خلدون الغنية عن التعريف، إذ كيف بلغ ما بلغه من العلم والشهرة، دون أن يكون قد تلقى تعليمه الأولي باللهجة التونسية، أي دون أن يكون قد وقف أمام أساتذته عقب إلقائهم للدروس، قائلا: "أنا فهَمْتكمْ" كما فعل بنعلي مخاطبا الشعب التونسي الثائر. هذا فضلا عن كون ابن خلدون قضى حياته يتعلم ويتنقل ويشتغل ما بين المغرب والأندلس والجزائر ومصر التي دفن بها، دون أن يتبادر إلى ذهنه كتابة "مقدّمته" بإحدى لهجات هذه البلدان بما فيها الدارجة المغربية، ولو فعل لما كان اليوم كتاب "المقدمة" الذي اشتهر به قد ترجم إلى لغات أجنبية كثيرة، وحظيت نظرياته، حول الحضارة وعلم العمران البشري، المضمنة فيه، بتسونامي هائل من الدراسات والأبحاث باللغة العربية والكثير من اللغات الأجنبية؛ لأنه في هذه الحالة كان سيكون عنوان مؤلَّفه هو "لَمْقَدْمَة" بدل المُقدّمَة، وبالتالي كان سيظل قابعا في رفوف مكتبات مهترئة الخشب، منسيا بين الباحثين ظنا منهم أنه رواية (أو حجاية) حول إحدى أعلام الرقص والغناء المغربيات في العصر الوسيط.