لما اقتضت حكمة الله عز وجل أن تكون معجزة خاتم أنبيائه ورسله كتابا، فقد اختاره أميا لا يقرأ ولا يكتب، حتى يقطع الشك باليقين، ولا تبقى حجة للمبطلين المشككين في صدق الرسالة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم، يقول الله سبحانه وتعالى {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت : 48]
لكن السؤال المطروح هو: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا لا يكتب ولا يقرأ، فلماذا يذكر الله سبحانه وتعالى "القلم" في أول الآيات التي نزلت على نبيه الكريم؟! {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق : 1-5]
للجواب على السؤال السابق لا بد أن نرجع إلى سياق نزول الآيات الأولى من سورة العلق، أي قول سيدنا جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم "اقرأ"، وجوابه بعبارة "ما أنا بقارئ"، ولعل هذا الجواب يعكس بشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان يعلم عن نفسه أنه لا يقرأ ولا يكتب، أي ضمنيا أنه لم تتح له فرصة التعلم والكتابة بالقلم الذي يتعلم به معظم البشر.
لذلك جاء تعقيب الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، أنه إذا كنت يا محمد لا تقرأ ولا تكتب مثل سائر البشر الذين يقرؤون ويكتبون، فاعلم أن الذي علمهم بالقلم هو الله عز وجل الأكرم، وما القلم إلا وسيلة وأداة للتعليم، أما العلم كله فهو بيده سبحانه وتعالى، لذلك اعلم أنك ستقرأ القرآن رسالة الله إلى العالمين، حتى وإن لم تكن تعرف القراءة والكتابة والتعلم بالطرق المعهودة، وسيتولى الله تعليمك بالوحي فهو ربك الأكرم الذي علم غيرك بالقلم.
على أن تعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير قلم، هو أمر خاص به كنبي من أجل إثبات صدق نبوته، ولا يعني أن تترك أمته صلى الله عليه وسلم التعلم بالقلم، بل هي مطالبة بالتعلم به زيادة على الوحي.
أما الحكمة من تعليم الخلق بالقلم، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي، فهي تجسيد إعجاز القرآن الكريم، فالبشر يتعلمون باكتشاف أسرار هذا الكون والمخلوقات بالقلم الذي سمح لهم بمراكمة المعارف والعلوم، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم يأتيهم بتلك الأسرار من باب إثبات السبق إليها والهيمنة عليها وحيا على شكل قرآن كريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو القرآن الذي أُمِرَ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأه باسم ربه عز وجل.
وبناء على ما سبق يمكن القول إن تعليم الخلق بالقلم هو الأرضية التي شاء الله عز وجل أن يتعارفوا عليها ويحتكموا إليها حتى تكون عندما يظهر العلم القرآني حجة على الخلق، ودليلا على صدق نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك أيضا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى وأمره إلى رسوله بالتبليغ فقط عن طريق قراءة القرآن الكريم وإيصاله إلى العالمين، ولم يأمره بتفسيره كله للناس، لأنه معجزة من النوع الذي لا ينتهي إعجازه بموت النبي الذي أعطيت له، وعليه فإنه بمجرد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العالمين، فقد انتهت المسألة وحسمت بين الحق والباطل في كتاب الله عز وجل، علمها من علمها وجهلها من جهلها، وبهذا الخصوص يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48) قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۚ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)} [يونس : 46-49]
ولعل هذه الآيات السابقة هي التي جعلت بعض الجهلة من مرضى النفوس يدعون مجيء رسول جديد إلى الناس بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ليُقضى بينهم بالحق، و كأن مجيء سيد الخلق قبل 14 قرنا بكتاب معجز من عند الله سبحانه وتعالى لم يكن كافيا ليُقضى بين الناس بالحق، أو كأن وفاة هذا الرسول ستجعلهم يستأخرون ساعة أو يستقدمون، لذلك فهم لهم موعد لن يُخلَفوه، ولا حاجة إلى رسول جديد، كما لا حاجة أيضا إلى أن يعيش الرسول السابق لعدة قرون، طالما أن المعجزة ما زالت محفوظة بإعجازها وآياتها، وإنما المسلمون مطالبون - كي يستعيدوا عزتهم وحقوقهم المسلوبة - بالأخذ بالأسباب المتمثلة في التعلم بالوحي والتعلم بالقلم حتى يأتي الله بأمره. هذا والله أعلى وأعلم.