كثيرا ما يطرح الإنسان هذا السؤال على نفسه، أو يُطرح عليه من قبل الآخرين، لكن في الحقيقة هذا السؤال بهذه الصياغة فيه نوع من المغالطة، كمن يقول لشخص يلبس قميصا عليه خطوط بيضاء وأخرى سوداء، هل قميصك أبيض أم أسود؟!
والصواب هو أن يحدد السائل الموضوع الذي يستفهم عن كون الإنسان مسيرا أم مخيرا فيه، لأن هناك أمورا هو مسير فيها وأمورا أخرى هو مخير فيها، بينما أمور مسير فيها بصفة مؤقتة مخير فيها بعد نهاية التسيير المؤقت، وهذا بيانه:
- من الأمور التي يعتبر الإنسان مسيرا فيها نذكر على سبيل المثال لا الحصر، النسب، البلد الذي ولد فيه، لونه، طوله... وهذه الأشياء لن يسأل الله سبحانه وتعالى هذا الإنسان عنها لأنه ليس هو من خلقها أو أوجدها، ولكنه سيسأله إن كانت من الأشياء التي يمكن تغييرها، كأن يولد الإنسان بمرض، يمكن علاجه أو التخفيف من حدته ببذل الأسباب، وبهذا الخصوص يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} [النساء : 97-99]
- من الأمور المخير فيها أعماله وأخلاقه وقراراته ومعتقداته... وهذه الأمور هي التي سيسأل عنها الإنسان لأنها هي موضوع الاختبار في هذه الحياة الدنيا.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى التكليف يبدأ مع سن البلوغ عند الإنسان العاقل، لأنه في هذه المرحلة يكون قادرا على الخروج من دائرة التسيير المؤقت ودخول دائرة الاختيار، فيترك المعتقدات التي وجد آباءه أو مجتمعه عليها إن كانت خاطئة، ولن يسأله الله سبحانه وتعالى عن مرحلة التسيير المؤقت.
أما الاحتجاج بكون الإنسان مسيرا وخاضعا لدين أبويه اللذين يهودانه أو ينصرناه أو يمجسانه بعد أن ولد على الفطرة، كما ورد في الحديث الشريف، فهذا احتجاج ينم عن الجهل بسياقه، أو عن نية مبيتة لاتهام الله عز وجل بظلم الناس الذين ولدوا في بيئة غير إسلامية، فحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم موجه للآباء كي يقوموا بواجبهم في تربية أبنائهم على العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة التي جاء بها الإسلام، لأن هذا هو اختبارهم وسيسألهم الله سبحانه وتعالى عنه بغض النظر عن كون أبنائهم من الذين يتبعون الحق أم لا.
كما أنه من غير المنطقي أن يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث عن كل مولود ثم يختص الأبوين فقط بقدرتهما على تغيير دين أبنائهما، علما أنه من المواليد من يكونون يتامى لم يعيشوا أبدا مع آبائهم، لذلك فالمقصود هو حث الآباء على القيام بواجبهم تجاه أبنائهم، كما تقدم، ولو كان الإنسان مسيرا في اختيار دينه من قبل أبويه أو مجتمعه، لكان العدل يقتضي أن يولد جميع البشر في مجتمع إسلامي، هذا والله أعلى وأعلم.