أبحاث الإعجاز العددي في القرآن الكريم في الميزان

 


اختلف الناس حول القرآن الكريم قديما وحديثا، فكان كفار قريش يرونه سحرا وسجع كهان وقول بشر، كما رآه بعضهم سطوا على أساطير الأقدمين… وقد جاء ملحدو العصر ليروا فيه أيضا نصوصا مسروقة من الحضارات السابقة… بينما ترى فيه فئةٌ عريضة من المسلمين كتاب هداية، ومنهم من لا ضير عنده في اعتباره، زيادة على هذا، كتاب علم يتضمن الكثير من الحجج العقلية والمنطقية والعلمية، لأنه جاء إلى البشرية جمعاء: عربهم وعجمهم، والعلم هو لغة العصر ولغة الناس أجمعين.


وقد ظهرت في العقود الأخيرة فئة أخرى من المسلمين ترى في القرآن الكريم كتاب إعجاز رياضي لا يقل أهمية عن الإعجاز العلمي الذي يتضمنه، وقد توج هذا التوجه بتوجه آخر في صفوف هذه الفئة، وهو منحى يهدف أصحابه إلى إعطاء تفسير وتأويل مقنع لتلك التوافقات العددية التي يقوم على أساسها الإعجاز العددي.


ولأن التشريع في الإسلام قائم بالأساس على الكتاب والسنة وإجماع العلماء والاجتهاد، فقد كان من المستبعد أن يكون هناك استنباط أحكام جديدة من التوافقات العددية في القرآن الكريم، فكان من الطبيعي الاتجاه إلى تأويلات تربط تلك الأعداد والإحصاءات بنبوءات وتوقعات مستقبلية، وكأن هذا هو السبيل الوحيد الذي يمكن أن يجعل لها معنى، على الأقل في منطق البشر، ما دام عقل الإنسان لا يمكن أن يتصور لها معنى آخر.


ولعل هذه المغامرة التي أقدم عليها الكثير من الباحثين في مجال الإعجاز العددي، كان عزاؤهم فيها هو أنه لا بد أن يأتي يوم للتحقق من مدى صدق تلك التأويلات، أي أن إيمان الإنسان بقدرته عل تصحيح الخطأ قد يكون هو الدافع الأساس لارتكاب الخطأ، لأنه يستصغر ويسترخص كل الوقت والجهد المبذول في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وأية حقيقة؟! إنها حقيقة كتاب الله عز وجل.


نعم، إن الوصول إلى الحقيقة، حقيقة الأشياء هي ما جعلت الإنسان يستكشف الوجود ويطور العلوم، وقد سعى جاهدا لكي يكون كل شيء عنده مفهوما، فإن كان عشِقَ الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة والأرض والفلك وغيرها، لأنها كانت طريقه إلى معرفة الحقيقة، فإنه عشِقَها أيضا لأنها كانت هي التي تضفي في عقله معنى على عالَم الرياضيات المجرد، فيقترب من فهم حقيقته، حيث أن معانى الأعداد توجد خارجها.


وقد ساقتني الأقدار إلى تلك المغامرة سوقا في سنة 2015م، فكان أول بحث لي في مجال الإعجاز العددي هو “نظرية الميزان 111 في القرآن الكريم”، والغريب في الأمر هو أن التوافقات العددية هي نفسها التي قادت إلى اكتشافه، ولولا أني لم أتوقف عند تلك التوافقات العددية البسيطة، لما وصلت إلى ما هو أعظم منها.


إلى هنا كنت قد اقتنعت أنه فعلا يوجد في القرآن الكريم إعجاز عددي لا يمكن أن يكون جاء بالصدفة لأن علم الله عز وجل أزلي وسابق وقديم قدم كلامه وإرادته، فلا شك أنه تعالى يعلم كل ما يضمه كلامه من معانٍ وتوافقات عددية، فيكون ما في القرآن من حق ومن محاسن وبلاغة وأوجه إعجاز مقصودا بالضرورة.


على أني اشتغلت في بحثي على برنامج الأستاذ عبد الدائم الكحيل، والذي أشرف على برمجته الأستاذ محمد حمادي وآخرون، وما أثار استغرابي، حينها، هو أن المنهجية المعتمدة في إحصاء البرنامج مختلفة تماما مع منهجية الإحصاء المعتمدة في أبحاث الشيخ بسام جرار بمركز نون، وكانت مسألة الهمزة في كتابة المصحف هي أحد الإشكالات التي استوقفتني كثيرا، فالشيخ يعدها حرفا، بينما البرنامج لا يعدها، لأنه يعتمد الرسم الأول للمصحف.


ولتحصيل مزيد من التأكد من أن الإعجاز العددي في القرآن الكريم موجود وفق الرسم الأول، فقد اشتغلت على سورة الكهف، فكانت النتائج مبهرة، حيث أشارت إلى وجود علاقة وطيدة للسورة بصفة عامة وقصة أصحاب الكهف بصفة خاصة، بالأعداد 1443 و 2022 و5782، فكان من البدهي أنها تشير إلى سنوات 1443 هجري و 2022 ميلادي و 5782 عبري، علما أنها نفس السنة لكن بتقويمات مختلفة، كما كان بدهيا أيضا أن لها علاقة بقصة أصحاب الكهف، لكن كان الإشكال حول ماهية الحدث المرتبط بهذه السنة.


لكن قبل الحديث عن ماهية الحدث، من الجدير بالذكر، أن النتائج التي توصلت إليها كشفت أن مدة لبث أصحاب الكهف مذكورة في القرآن الكريم بطرق عددية مختلفة، فكان التساؤل الوجيه هو: هل يمكن أن يكون مكان أصحاب الكهف مذكورا أيضا في القرآن الكريم إما بصيغة عددية لها علاقة بحساب الجمل، وإما بصيغة بيانية، على أساس أنه يمكن للتوافقات العددية أن تساعد على التفسير الصحيح لتلك الصيغة البيانية. وعلى ضوء التكامل في المعنى الموجود بين الصيغ البيانية والعددية، ظهرت إشارات أخرى قوية، رسخت لدي احتمال أن يكون مكان أصحاب الكهف مذكورا أيضا في القرآن الكريم، فكان تأويلي لتلك التوافقات العددية هو أنها تشير إلى سنة اكتشاف مكان أصحاب الكهف أي في سنة 2022م.


وقد راسلت الشيخ بسام جرار عبر بريده الإلكتروني الذي عثرت عليه في موقع مركز نون، بصفته مدير المركز، وبصفته من أبرز الباحثين في الإعجاز العددي على مستوى العالم الإسلامي، وقد بسطت بين يديه مجموعة من الملاحظات، والتي لم يكن الهدف منها بالضرورة هو جعله يقتنع بتأويلي لتلك التوافقات العددية في سورة الكهف، بل هو تنبيهه إلى أنه إذا كان منهجه في الإحصاء هو الصحيح، فكيف يمكن أن يكون منهج إحصاء البرنامج الذي اشتغلت عليه خاطئا، ومع ذلك أعطى نتائج وتوافقات عددية مذهلة. بمعنى أنه إذا كان هناك حقا إعجاز عددي في القرآن الكريم، فإنه مع الأخذ بعين الاعتبار وجود إمكانية للحصول على توافقات عددية كثيرة بسهولة؛ حتى إذا كانت مستندة على إحصاءات خاطئة، فقد وجب أن نرفع السقف المطلوب توفره حتى نحكم على التوافقات العددية هل تعتبر إعجازا له تأويل معين، أم أنها فقط توافقات لا يترتب عليها شيء، لأنه سبق وتبين أنه حتى الإحصاءات الخاطئة تعطي نتائج وتوافقات عددية.


وقد سقت للشيخ قصة طريفة مبكية حول أحد المعارضين للإعجاز العددي، حيث صمم برنامجا لإحصاء القرآن الكريم، ليس اقتناعا منه بوجود علم عددي قرآني، بل حتى يقطع الطريق في نظره على باحثين آخرين في الإعجاز العددي، وذلك بأن يوضح لهم أن الإحصاءات التي بنوا عليها أبحاثهم خاطئة، لأنه اعتمد منهجا في الإحصاء مخالفا تماما للمناهج المتبعة في جل الأبحاث. ويبدو مما اكتشفته أن البرنامج انتشر على الأنترنت معزولا عن توضيح الهدف من إنشائه، فوقع في يد بعض الباحثين الذين بنوا أبحاثهم على إحصاءاته، فيكون بذلك صاحب البرنامج ينطبق عليه المثل القائل (إن صح أن نعتبره مثلا): “أراد أن يرشده فأضله”. وبيت القصيد من القصة أن التعصب للرأي وعدم التنسيق بين الباحثين لا يخدم القرآن الكريم، كما أن كون البرامج المبنية على إحصاءات خاطئة تعطي أيضا توافقات عددية مذهلة، جدير بأن يجعلنا نعيد النظر في معاييرنا وفهمنا وتعريفنا للإعجاز العددي، أو أن نستوعب أن القرآن الكريم معجز في كل ما يتعلق به من اختلاف كتابة وقراءات وغيرها، وهذا يحتاج إلى مزيد من البحث لإثباته، من الناحية العددية.


والحق يقال إنه بالرغم من عناية الشيخ برسالتي مشكورا، إلا أنه بقي على رأيه ومنهجه الإحصائي، وهذا يعني أحد أمرين بعد أن تبين أن نبوءته لم تتحقق، على الأقل بالشكل الذي كان يتوقعها، أو بالشكل الذي فهمها الناس به، وَهُمَا: إما أن منهجه الإحصائي كان خاطئا، وإما أن تأويله لتوافقات عددية صحيحة هو الذي كان خاطئا.


وبالفعل فقد قمت بإجراء نفس الأبحاث على سورة الكهف في سنة 2017م، لكن باعتماد نفس منهج إحصاء مركز نون، فظهرت أيضا توافقات عددية تتعلق بالأعداد 1443 و 2022 و 5782م والتي اتضح أن لها علاقة بقصة أصحاب الكهف، بل ولها علاقة بالبنية العددية للقرآن الكريم عموما، وأيضا بالحروف المقطعة أو ما يسميه الباحثون بالفواتح النورانية، مما يحيل إلى أحد أمرين وَهُمَا: إما أن تلك الأعداد ترمز إلى سنوات لكن لا أحد من الباحثين، لحد الآن، وُفِّقَ في فهم معناها وتأويلها الصحيح، وإما أنه وجب علينا إعادة النظر في المعايير المعتمدة في تقبل الأبحاث العددية، ووضعها موضع المسلمات، أو حتى وضعها ضمن الاحتمالات ذات نسبة تحقق مرتفعة، لأن هذه الثقة الكبيرة في حد ذاتها تعد تسليما بحتمية الوقوع.


وهنا لا بأس أن نذكر أن الشيخ بسام جرار كانت له أبحاث عددية بخصوص أصحاب الكهف حيث يعتبر أنهم عاشوا قبل الميلاد، وأن كهفهم يوجد تحت صخرة بيت المقدس، وهذا سبب آخر جعلني أتواصل معه، لأن الفكرة التي كنت أتبناها، حينها، كانت هي أن القصة وقعت بعد الميلاد، وأن الفتية كانوا من المسيحيين الموحدين. فهل يمكن للشيخ بعد عدم تحقق نبوءته الخاصة بـ 2022م أن يعيد النظر حتى في آرائه السابقة بما فيها زمان ومكان أصحاب الكهف، علما أنه بناها أيضا على الإعجاز العددي؟ الله أعلم.


وعلى العموم فلست هنا بصدد مساءلة الشيخ أو تخطيئه؛ بقدر ما أريد أن أوضح أنه وجب الرجوع إلى الأصل وهو عدم التوقيت لأي حدث كان سواء أكان قطعيا مستمدا من القرآن الكريم والسنة الصحيحة أو ظنيا مستمدا من الرؤى أو من الأحاديث الضعيفة، أو حتى من الكتب السماوية لما لحق بها من تحريف لا يُعلم موضعه بالضبط، أو حتى من كتب الجفر التي وجب أن تكون أول ما ينكره العقل السليم.


وبناء على ما سبق فإنه لا بد أن يتحلى الباحثون في علوم القرآن الكريم بسعة الصدر لتقبل النقد البناء، وكذا بالشجاعة لإجراء مراجعات فكرية ومنهجية في طريقة التعامل مع كتاب الله عز وجل، ولكن لا بأس أن تبقى الأبحاث منشورة لأنها لبنةٌ في بناء كبير، وتوثيقٌ لمرحلة كان لا بد منها في عصر العلم الذي فتح آفاقا للبحث كانت مسدودة قبل ذلك، وخدمةٌ لكتاب الله عزوجل على المستوى البنيوي في ظل تكنولوجيا الحواسيب التي قد لا تتوفر مستقبلا لسبب من الأسباب، ولكن من الأفضل والأسلم أن يُنشر كل بحث، إن كان لا بد من ذلك، بعيدا عن التأويلات؛ على الأقل قبل تجديد المناهج والمعايير وآليات الفهم.


هذا والله أعلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عبد اللطيف المجدوبي
عبد اللطيف المجدوبي